Login to your account

Username *
Password *
Remember Me

حسين العشي يكتب..د احمد زكي اعظم من انجبت السويس والاول في كل المجالات

د احمد زكي د احمد زكي

 

 

بقلم المؤرخ:: حسين العشي

 

لمحات من تاريخ السويس – الدكتور احمد زكى . . الاول على السوايسة فى كل المجالات

هو اعظم من أنجبت السويس – اقول ذلك بمنتهى الامانة والتجرد –
هو ( الألفة ) على كل السوايسة على مدى تاريخ المدينة ..
اول دكتوراه – اول وزير – اول رئيس جامعة – اول رئيس تحرير – اول من انشأ مجلة على مستوى العالم العربى – اول عالم – اول ..اول ..اول ..
وطوال عمره ظل متيما بالسويس ويفتخر بها ويكتب عنها ( بلدى السويس ) بالفم المليان ..رغم انه لايوجد فيها شارع بأسمه ..بل مجرد مدرسة ابتدائى يتيمة ..لااعرف هل غيروا اسمها ام لازالت تحمله حتى الان ..
وربما اختلط عليهم الأمر واعتقدوا انها تحمل اسم الممثل المشهور ..وليس العالم السويسى العظيم فخر السويس وابنها الوفى الدكتور ( احمد زكى ) ابن شارع القاضى وحى الغريب ..

ففى كل مراحل حياته وفى مختلف المجالات التى عمل بها اوشارك فيها هذا الرجل ، يحمل دائما صفة ( الاول ) قبل اسمه
– فهو( اول ) سويسى يحصل على درجة الدكتوراه ، وكانت فى الكيمياء عام 1924 من لندن
– وهو ايضا ( اول ) سويسى يحصل على درجتى دكتوراه متتاليتين ، فبعد حصوله على الدكتوراه الاولى من جامعة ( ليفربول ) الانجليزية ، حصل على الثانية ايضا من لندن عام 1928 فى الفلسفة عن العلوم ، وكان بذلك ثانى مصرى يحصل على الدكتوراه فى هذا التخصص ، بعد العالم العظيم ( مصطفى مشرفه ) ابوعلماء الذرة المصريين.
بالاضافة الى انه ( اول ) سويسى يرأس احدى الجامعات المصرية – واى جامعة – جامعة فؤاد الاول ( جامعة القاهرة حاليا ) اعرق الجامعات المصرية واقدمها .
وهو ( اول ) سويسى يتم اختياره وزيرا ، فى وزارة حسين سرى عامر باشا عام 1952.وهو ( اول ) سويسى يتولى رئاسة صحيفة مصرية حيث رأس تحرير مجلة ( الهلال ) اقدم مجلة ثقافية فى العالم العربى – منذ عام 1949 حتى عام 1959 .
وهو ( اول ) سويسى يقتحم عالم الصحافة فى العالم العربى ، حيث قام بتأسيس مجلة ( العربى ) الكويتية والتى ظلت تقود الحياة الثقافية والادبية على مستوى الامه العربية طوال مده رئاسته لتحريرها من عام 1957 حتى 1975
وهو ( اول ) سويسى يحمل صفة اجمع عليها كل ابناء جيله والاجيال التالية وهواللقب الذى ظل يلازمه طوال حياته للتعريف به .... ( كيميا ئى مصر الاول )

***

ولد الدكتور ( احمد زكى محمد حسين عاكف ) فى شارع القاضى بحى الغريب فى 15 ابريل 1894

واتم دراسة المرحله الأبتدائية عام 1907 ثم انتقل للقاهرة لاستكمال دراسته - لعدم وجود مدارس ثانوية بالسويس وقتها ، وحصل على الثانوية وكان ترتيبه ( الثالث ) على القطر المصرى عام 1911
ثم التحق بمدرسة المعلمين العليا وتخرج منها عام 1914 .
و عمل فور تخرجه مدرسآ فى أهم مدرسة ثانوية فى ذلك الوقت ( السعيدية الثانوية )
ورشح للسفر فى بعثة الى أنجلترا ، غير انه فشل فى اجتياز الكشف الطبى ، وكان ذلك من حسن حظه حيث قامت الحرب العالمية الاولى بعدها بشهورمما جعله يواصل مهنة التدريس فى مدرسة الظاهر الثانوية بالقاهرة واختير بعد عامين ناظرا لمدرسة وادى النيل الثانوية بباب اللوق.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى استقال من وظائف التدريس من اجل تحقيق حلمه باستكمال الدراسة بانجلترا ، رغم ان ذلك كان على نفقته الخاصة
وبالفعل نجح فى الالتحاق بجامعة (وتنجهام ) للتخصص فى الكيمياء ،حيث زامله فيها الدكتور( مصطفى مشرفه ).
ونجح فى انجلترا فى الالتحاق بالبعثة الدراسية المصرية الرسمية ليحصل على بكالوريوس العلوم من جامعة ( ليفربول ) عام 1923 ، ثم دكتوراه الفلسفة فى الكيمياء من ليفربول ايضآ عام 1924
وانتقل بعد ذلك الى جامعة ( مانشستر) ثم جامعه ( لندن ) والتى حصل فيها على درجه دكتوراه اخرى ( الاستاذية فى العلوم )عام 1928 وهى ارفع درجه علمية تمنحها جامعات العالم فى هذا التخصص.
ويعود ( الدكتور احمد زكى )الى القاهرة عام 1932 ، بعد قضاء 13 عامآ فى انجلترا، ويعين استاذ مساعدآ فى الكيمياء العضوية بكليه العلوم (جامعه القاهرة) ثم يرقى الى درجة استاذ بعدها بعام واحد ، ليكون اول مصرى يحمل درجة الاستاذية فى الكيمياء.
وواصل ( الدكتور احمد زكى ) مسيرة حياته العملية والعلمية المشرفة ، ليشغل بعد ذلك منصب مدير مصلحة الكيمياء عام 1936.
ويسهم هذا الرائد العظيم فى تأسيس اكثر من جمعية او تجمع علمى من بينها :
- الجمعية الكيميائية المصرية (عام 1938 )
- المجمع المصرى للثقافة العلمية ( 1939 )
- المركزالقومى للبحوث ( 1947 )
-اكاديمية البحث العلمى والتكنولوجيا فى مصر
ثم يتولى (الدكتوراحمد زكى ) رئاسة جامعة فؤاد الاول (القاهرة ) عام 1949
ويختاره ( حسين سرى باشا ) وزيرا للشئون الاجتماعية عام 1952
- وتمتد شهرته العلمية الى خارج مصر ، حيث يتم اختياره عضوا بمجمع اللغة العربية فى كل من دمشق وبغداد ، بالاضافة بالطبع الى مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
مؤلفات الدكتور احمد زكى
وفى خضم كل هذه المسؤليات والانشطة العلمية ، لايتوقف الدكتور ( احمد زكى )عن تزويد المكتبة العلمية بعشرات المؤلفات والكتب فى مختلف فروع العلم المختلفة . ومن اشهر كتبه
- (فى سبيل موسوعةعلمية) وهى أول موسوعة عربية شامله لجميع فروع العلم معروضة بأسلوب أدبى رائع.
- كتاب (مع الله فى السماء)
- كتاب ( مع الله فى الأرض)
- كتاب (سلطة علمية)
- كتاب (بين المسموع والمقرؤ)
وساعد اهتمام الدكتور احمد ذكى باللغات الأجنبية فى ترجمة العديد من الكتب العلمية ، من بينها
- قصه الميكروب.
- فى اعماق المحيطات
- بواتق وانابيب
- قصة الكيمياء
الا ان مايثير الدهشة والاعجاب معا ، ان الكتور ( احمد زكى ) وهو عالم الكيمياء الشهير ، كان من هواة الادب العالمى بل وقام بترجمة عدد من كلاسيكيات الروايات العالمية ، ومن بينها ( غادة الكاميليا ) و ( جان دارك ) للاديب الفرنسى ( فيكتور هوجو )
تأسيس مجله (العربى) الكويتية
على الرغم من ان التخصص الذى كرسى له د.احمد زكى حياته هو مجال العلوم والكيمياء – الا أن عام 1958 شهد محطة هامة فى حياته ، وهى تلبيته لدعوة وزارة الإعلام الكويتية لتأسيس مجله ادبية وعلمية ،اختار لها اسم ( العربى) واصبحت اكثر المجلات العربية انتشارا وتأثيرا منذ اصدارها ، واستمر يرأس تحريرها حتى وفاته الى رحمة الله عام 1975 عن 81 عامآ قضاها كلها فى خدمه الوطن والعلم والأدب.
ارتباطه وعشقه للسويس :
كان الدكتور احمد زكى مرتبطآ بالسويس وعاشقا لها يذكرها فى كل وقت ويحضر اليها كلما سنحت الظروف ، وظل على العهد حتى فى سنوات عمره الأخيرة بعد أن اصبح شخصية شهيرة و ذائعة الصيت على مستوى العالم كله.
وليس ادل على ذلك من كتاباته المستمرة عن السويس وتاريخها وايمانه بما ينتظر السويس من افاق مستقبلية لأداء دور اكبر فى خدمة الاقتصاد المصرى و قيامه فى عام 1963بارسال مجموعه من الصحفيين والمصورين الى السويس لعمل تحقيق صحفى مصور عنها اختار له عنوان ( السويس - المدينة والتاريخ) تم نشره على امتداد 40 صفحة بالالوان فى عدد نوفمبر 1963 تحدث فيها عن تاريخ السويس وحاضرها ومستقبلها.
ونشر على غلاف العدد صورة النمر البنغالى الذى كان موجودآعلى المدخل الجنوبى لقناة السويس عند ضاحية ( بورتوفيق ) .ولم ينس فى نهاية الاستطلاع الصحفى الاشارة الى أنه احد ابناء مدينة (السويس )الغالية وانة يعتز ويفخر بذلك .
واستمر الدكتور ( احمد زكى ) يواصل العطاء والابداع و يحظى بالاحترام والتقدير من مختلف الجهات العلمية والشعبية والادبية فى كل دول العالم ، الى ان توفى الى رحمة الله عام 1975 عن 81 عاما قضاها كلها فى خدمة الوطن والعلم والادب .

مقالة نادرة للدكتور أحمد زكى

كان د.أحمد زكى عاشقا متيما بالسويس , لم تنقطع علاقته بها فى اى فترة من الفترات- وكان طوال حياته يفخر بانتمائه للسويس - وقد عثرت على مقالة نادرة للرائد العظيم فى مجلة )الإثنين والدنيا ( الاسبوعية التى كانت تصدر عن دار الهلال يرجع تاريخها إلى عام 1949 بعنوان "بلدتى السويس " ، نشرته المجلة على امتداد ثلاث صفحات ، ويعتبر المقال الذى تقطر كلماته بالعشق للسويس ، قطعة ادبية نادرة بكل المقاييس انشرها بنص الكلمات التى سطرها الدكتور احمد زكى ..
(بلدتى السويس , وأى بلدة هى ...
بلدة صغيرة قليلة , ولكن إذا وزنت الأقدار , فهى الضخمة الكثيرة
إنها ملء الأسماع والأبصار , وأشهر مدائن مصر بين أمم الأرض طراً
در مع الأرض حيثما دارت , وسائل أهل الأرض عن القاهرة , فقد تجد الكثير الذى لا يعرف القاهرة .. وسائل أهل الأرض عن الإسكندرية , فقد تجد الكثير الذى لا يعرف الإسكندرية.. ولا أجشمك شططا فأقول لك سائلهم عن طنطا , وعن أسيوط.. ولكن سائلهم عن السويس , وقنال السويس , فلا أحسب أنك واجد فى الأرض من يجهلها.
إن الرجال الناجحين فى الحياة صنوف.. وأول هذه الصنوف الذى الذى يولد والعز يحوطه , والغنى يتأطره , ليس عليه إلا أن يتحرك ليثبت أن الحياة قد دبت فيه حتى يقول له الناس "سيدى" - والصنف الثانى من هؤلاء الرجال , الرجل الذى لا يولد على غنى , ولكن حوله ممكنات العز , وممكنات الغنى , فهو لا يلبث أن يعمل وأن يكد , حتى يجد الدنيا مواتية , والنجاح ملبيا , والسيادة التى فاته أن ينالها ارثا , فقد نالها كسبا..
وصنف ثالث من الرجال , يولد ليعمل , وينظر حوله فلا يجد من ممكنات الحياة شيئا , ومع هذا لا ييأس , ويأخذ يجمع شيئا من لا شئ , ويأخذ يقنع الناس بأن عنده شيئا , ثم هو ينجح فى إقناع , فيأخذ هو يقتنع بأن عنده شيئا. وإذا به يتقدم الصفوف , وإذا بأسمه يملأ الاسماع , وكل هذا لحيوية جياشة فيه تأبى الموت , ولعزم كنصل السيف , الذى تجرد من كل شئ , فلم يبق له إلا أن يشق سبيله فى الحياة قطعا..
والبلدان كالرجال
والسويس كهذا الرجل الأخير.. كالسيف تجرد من كل شئ , فهو يشق طريقه قطعاً
بلد لم تهب له الطبيعة من التربة إلا الرمال , ولم تحطه إلا بالقفار , ولم تعطه من الماء إلا الملح الأجاج , ومع هذا فقد عاش على القرون , وغالب الزمان
تقرأ عن موسى , وأى ماء عبر , وتسمع بوادى التيه , وبعيون موسى , فتذكر بذلك السويس
وتقرأ عن القرن السابع الميلادى , فتعلم أنه كان على رأس هذا الخليج بلد يعرف بالكلظم ( القلزم )
, بلغ من خطورته أن مد إليه من النيل ذراع يمده بالماء , ومع الماء حياة..
وتتحرى.
فتعلم أن هذا البلد لم يكن بلداً آخر غير السويس
ثم يتغير لهذا البلد الزمن , وتتغير الخطوط.. فيذهب الماء وينضب مجراه , ولا يكاد يعرف الناس أين جرى.. فتقول : يا ويحتاه , لقد ذهبت بذهاب مائها السويس
وتقرأ فى العهد الفاطمى , فتعلم أن الحاكم بأمر الله سامح أهل المدينة مما كان يؤخذ فيها من مكوس المراكب ..
إذن لقد بقيت المدينة تغالب العيش لما أنضبوا منها موارد العيش
, وبقيت إلى عهد الفاطميين , فيها مراكب ولها مكوس
ولكن أيضاً ضيق العيش الأبدى الذى حدا بأمير مصر أن يرفع عنها مكوسه.
وتقرأ فى العهد العثمانى فتجد السويس قد صارت ميناء بحرياً للحرب وللتجارة , وأن سفنه جرت إلى المحيط الهندى تتحدى اساطيل البرتغال فى سيادة البحار
ويأتى العهد الحديث , وإذا بهذا البلد , ذى القفر , وذى الفقر , ينزل مصر على حكمه غضباً , وينزل العالم ..
ففى أوائل القرن الماضى , ينظر( محمد على) أول ناظر فى ربط السويس بالقاهرة بالسكة الحديدية , ثم يصرف النظر , لمقتضيات سياسية .
وفى منتصف ذلك القرن يمهد عباس الأول من العاصمة إلى هذا البلد طريقاً , بالحجر , ثم يقعد به التعب عند منتصفه , فيبنى عنده لنفسه داراً
.. ثم يأتى سعيد فيربطه بالعاصمة بالحديد .. ومنذ جرى البخار على هذا الخط الجديد , حديداً فوق حديد
ازداد هذا البلد خطورة , وإزداد إمرة , وكثرت البضائع , وحملت ذهاباً وجيئة بين الغرب والشرق , على الأرض , من الإسكندرية إلى السويس , ومن السويس إلى الإسكندرية , ومنهما إلى البحار السبعة..
ثم حدث ما لم يكن منه بد : شق القنال. ثم حدث ما لم يكن منه بد : فمع القناة المالحة شق إسماعيل القناة الحلوة , وبذلك تهيأ لهذا البلد أن يشرب العذب , وتهيأ لأرضه أن ترتوى , فتخلع عن بعض أكتافها رداء أصفر حملته قروناً , وتلبس كساء من سندس أخضر
فعرفت السويس ما البساتين الواسعة المديدة , وعرفت ما الشجر, وما الثمر , تجود به الأرض ويفيض
.. وجاء القرن الحاضر بالزيت , تفجرت ينابيعه حول هذا البلد , فاطمأن إلى كيانه.
وعرف أهله أن النعمة جاءتهم هذه المرة لتبقى وإستشرفوا الأفق البعيد , ينظرون ما سوف يأتى به الغد , وراء الزيت من جديد
فطلع عليهم الأفق بأول طالع للسعد , ذلك مصنع السماد , يشاد فى ظل جبلها العتيق , جبل عتاقة , وسوف تصبح السويس , قبل أن يفنى هذا القرن , مركزاً من مراكز مصر الصناعية الكبرى , وسيجزى الله هذا البلد , ويجزى أهله , بما شقوا , وربما صبروا , خيراً كثيراً
..............................
فهذه قصة بلدتى السويس مع الناس والزمان
ولها معى قصة أخرى
فأنا دخلت الدنيا , أول دخول من بابها وإنفتحت عينى , أول إنفتاح , على صور من رسمها
وظللت ست سنوات أغذى جسمى القليل ليكثر ويكبر من طعام درجته أرضها وأرويه من ماء حملته خلجانها , ولعبت أول لعبة , ووثبت أول وثبة , بين لداتى من أهلها وتركتها أبعد ما أكون عن بلوغ الحلم , وقد حملت منها ذكريات عجز الزمان عن محوها على غياب طال ولم أعد إليها , أزورها , إلا وقد قاربت السن التى زعموا أن عندما تكتمل حكمة الأنبياء... تلك سن الإربعين!
وجرت السيارة تطوى بنا إليها الفيافى , وتطوى الذاكرة بى إليها السنين , إلى تلك الطفولة الحبيبة الأولى , فاذا صور واضحة تتواثب أمام عينى , وأنا الطفل صورة منها .. وإذا حوادث تجرى متلاحقة , وأنا الطفل بعض من يجرى فيها..
ذكرت المحمل , ويوم المحمل , وهو يوم فى السويس مشهود , أو هكذا كان ووجدتنى على رصيف المحطة القديمة , وقد إزدحم عليه الناس فلم يبق فيه موضع لقدم. وإزدحمت إلى المحطة المسالك , وإزدحمت مداخلها والمخارج وإمتلأت وجاء القطار المرقوب يتخطر. فتصارخ الناس وتصايحوا وهل المحمل فوق القطار بهامته الفضية العظيمة , وبأكتافه الأربع العراض , وبحلته الجميلة وقد برقت فيها الفضة , وبرق الذهب وما هل حتى كبر الناس وهللوا , وأخذتهم حمية للدين نادرة الظهور , وتدافعوا إلى العربة الخضراء , حاملة المحمل , يتبركون. ثم لا أدرى كم مضى من الزمن ونحن على هذه الحال واقفون , ولكن الذى أدريه أن الرجل الذى حملنى , رفع بى إلى ظهر تلك العربة الخضراء فتلقفتنى أيد من فوقها , وإذا بى على سطحها وإذا المحمل , هذا الشئ المخوف المرموق , على بعد ذراع منى ومددت يدى على حذر ألمسه فقصرت ذراعى الصغيرة عن مناله .. وتحرك القطار , فقلت إلى أين ؟ قيل : إلى الميناء صخور على رصيفه عظيمة تتدافع عليها الأمواج . وداخلنى من الأمواج رعب.. فهذه كانت أول مرة أرى فيها البحر الأعظم. وخلت أنه ليس له قرار وقاموا إلى المحمل يفككونه للشحن فى سفينة , تحمله إلى الحجاز . ورفعوا عنه الثياب , فاذا هيكل من خشب , والخشب عتيق , وإذا على الرأس عمامة , وهى من ثوب أبيض كالذى عرفناه من أثواب. وزالت روعة فى نفسى , وزالت هيبة , وزال تقديس , وعرفت على الصغر كيف يقدس الناس الهياكل وهى من خشب.. وعرفت على الصغر معنى الثياب الجميلة , والظواهر البارقة , التى تبهر وتعجب , وقد تخيف وترعب , وهى إنما إنضمت على فراغ وخلاء وخواء
وذكرت فى طريقى إلى السويس , رجلاً مكتملاً , موسم الحج على الصغر.
وسطعت رائحة الحجاج فى أنفى كأنما شممتها بالأمس , وهى رأئحة أشبه برائحة الند والعود. ورأيتهم من كل ملة , وكل لون , قد إزدحموا فى الفنادق , فى حجراتها والردهات. وأمر بينهم فأرى اللحى الطويلة , وأرى الثياب العجيبة . وأرى المعاطف فأحسبها الألحفة قد شقوها , وفصلوها معاطف.
وأسمع ألسنة شتى فلا أفهم منها شيئا. ومع هذا يلذ لى أنا الطفل , أن أجوس خلالهم , أتبين وأتعرف فهذا تركى, وهذا روسى , وهذا مراكشى , وهذا قبرصى. وتذكر لى هذه الأسماء فلا أفهم لها معنى وأقول لنفسى: هؤلاء قوم أغراب وكفانى.
وذكرت وأنا فى الطريق إلى مسقط رأسى ( طابية ) فى ظاهر المدينة , ناحية القنال , كانت مجتمع الأنظار عند الإفطار فى رمضان..
وفى ظاهر المدينة من الناحية الأخرى , حيث تبدأ الرمال , كان ( دير للراهبات , (شاقنى شجر الكافور الكبير الذى فيه , ورحل المرضى من الفقراء كل صباح إليه يتطيبون. وأسموه " السبع بنات " وسألت عن هذه السبعة , فقيل انهن سبع بنات راهبات , يقمن بالخدمة فيه . وقنعت بالجواب .
ولكنى عرفت أن بالجانب الشمالى بالمدينة , حيث الحدائق , يوجد مقام لشيخ دعوناه " بالشيخ الإربعين " فعجبت لرجل واحد كيف يدعى بالإربعين , وسألت , فما وجدت جواباً , ولا وجدت إقناعاً
وتلك الحدائق فى ظاهر المدينة , عند ملتقى القناتين , الحلوة والملحة , حدائق البراجيل كما سموها فى أول هذا القرن , كان يجتمع فيها أهل الفضل فى المدينة , كان من ذوى العمائم وذوى الطرابيش.
وكنت أصطحب والدى , فأراهم يبلغونها فيصلون.
فأذا فرغوا من فرض الله قعدوا لفروض الإنسان فتحدثوا وتندروا.
ويجئ الفلاحون بأعواد القصب. قصب السكر , فيكون لهم فيها جولة , على ماء الترعة من تحتهم , وعلى سحاب الخريف , أو لعله سحاب الشتاء , يتهادى فى السماء كالقطن المنفوش من فوقهم , ثم تميل الشمس وتغيب..
صور كثيرة حبيبة , مرت بالذاكرة , ونحن فى الطريق إلى مواطن هذه الذكريات وبقينا فى السويس أياماً , وتسللت من أصحابى لأختلى بالمدينة , وحدى , كما يختلى الصديق بصديق قديم. أو لعل الذكريات وقعت فى نفسى موقع النجوى , والنجوى بعض العبادة , فهى أحلى ما تكون فى خلوة ومشيت فى الطرقات , وأخذت أتعرف الشوارع والحارات , وأتعرف البيوتات , وأتوسم وجوه الرجال. وأقول : هنا كان وما زال, وهنا كان وزال.
وجاشت النفس , فتبلل الجفن , فى أكثر من موضع , وأكثر من موقف . وعرفت كيف أبكى العرب الديار , وبكوا الدمن والآثار:
بلد ألم به فقال سلام
كم حل عقدة صبره الألمام
-وخرجت عن بلدتى , لا يدرى أحد من صحبى , ما صنعت بها , وما صنعت بى
وخرجت عن بلدتى , بصورتين
صورة عرفتها فى طفولتى
وصورة عرفتها فى رجولتى
وطابقت بين الصورتين فما إنطبقتا
وكيف ينطبق اليوم الحاضر
والأمس البعيد الغابر!
وتسألنى عن الصورتين , أيهما آثر عندى
.. فأقول
تلك التى عرفت عليها الدنيا
أول ما عرفت كيف أعرف.
.

قيم الموضوع
(0 أصوات)

فيس بوك

Ad_square_02
Ad_square_03
.Copyright © 2024 SuezBalady